رسالة اعتذار إلى شادي الشرفا

شادي العزيز،

حين أفرجت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن أربعمائة وتسعة وعشرين أسيراً من سجونها، في وقت مبكر من يوم 3 كانون الأول 2007؛ عرفت معنى الفرحة المنقوصة، وخجلت منكَ ومن رفاقك، من الأسرى غير المحررين.

عذراً شادي، يا أول الأبناء وأجمل الأسماء وأنبل الشباب، عذراً لتأخري في الرد على رسالتك الجميلة الحادة الموجعة. كيف يمكن أن يجمع شاب مثلك بين الجمال والقسوة والحنان؟!

"التصق الحنين بجسدي، ولم أعد أتحرر منه، ولا مناص من الأشياء التي يحبها الفرد حتى في أحسن أحواله… صدى صوتكِ يعزيني، فما زال في الوجدان.. هنا حيث يقبع معمل الذكريات.. وعلى النقيض، معمل الثأر وتخزين الكراهية. ولا جدوى من شطب الكراهية من قاموس الأسير، إن محاولة تجريده من إنسانيته عبر مختلف وسائل البطش؛ لا تسرق منه مشاعر الحب والفرح والكره والخوف، فحتى الكراهية هي أحد التعابير الإنسانية…

قال لي أحد الأسرى يوماً بأني أزداد تطرفاً، رغم أني أجد نفسي أكثر واقعية، ولا أعرف ماذا ينتظرني في الستقبل، والحقيقة أني لا أكترث كثيراً بما يخبىء لي الغد…

ساد صمت قصير في الزنزانة، فسألته: عرِّف معنى تطرف؟ رد بثقة: فقدان الإنسانية وتشريع القتل… أدرت ظهري بابتسامة عتاب، وقلت له: لا يشرِّفني أن أكون إنساناً….

إن الإنسانية تعريف مطاطي، وفهمنا للإنسانية مغلوط ومشوَّه، أليس باسم الإنسانية نُذبح كل يوم؟! أليس هو نفسه الإنسان الذي قاد الحروب ودمار الشعوب ويمتص دماء أخيه؟! خلاصة القول إن وعينا للواقع مزيف، لذلك نستحضر أفكاراً عفى عليها الزمان، ونعيد إنتاج التخلف، بكل الوسائل. قد أبدو متناقضاً أحياناً، وهذا هو صلب الواقع، حيث نعيش حالة من "الإرباك الفكري"، إذا صحَّ التعبير".

أوافقك وأخالفك يا شادي، أوافقك أن الكراهية هي إحدى التعبيرات الإنسانية، وأن الكثير من مصطلحاتنا مشوَّه، وأنّا نستحضر أفكاراً عفى عليها الزمن، ونعيد إنتاج التخلف، وأفهم معنى الإرباك الفكري الذي تتحدث عنه، والذي أسميه: إعمال الفكر النقدي، ومساءلة الواقع والإجابات الجاهزة؛ لكني أخالفك، وأخاف عليك، مما سمَّيته: عدم الاكتراث بما يخبىء الغد. كيف لا تكترث بالغد، وأنت تصنع الغد لنا، ولك، ولعشاق الحرية في كل بقاع الأرض؟! كيف وأنت تؤكد:

"أنا على ثقة بأن المستقبل لنا، وهذا يتطلب أن نضع وعياً لذاتنا، ونكشف السبل والوسائل للتغيير، والتعامل مع الظروف الموضوعية، بحكمة الثوار الذين لديهم استعداد للتضحية. جميعاً لدينا الإرادة؛ لكن قلة من لديهم الاستعداد للتضحية".

*****

"لا أعرف مدى توافقي السياسي معكِ، والحقيقة لا يهم كثيراً، لأني وبعد سماعكِ، من خلال لقائك التلفزيوني مع "زاهي وهبي"، وجدت نفسي فيكِ.

قلتِ: حرام أن الشهداء يصبحوا مجرد أعداد. وأقول: لقد عوَّدونا على مشهد القتلى بالعشرات، وأصبحت الجريمة فقط حين يسقط ما فوق االعشرين. لم يعد للفرد قيمة، واجتاحتنا ثقافة الموت.

إن مشكلتنا هي أننا لا نقدم أنفسنا كضحايا، عجزنا عن استقطاب الرأي العام العالمي. لم نتعلم من تجربة الحركة الصهيونية، وكيف سوَّقوا أنفسهم كضحايا. يسقط منا الشهيد ونصرخ أمام الإعلام: سوف ننتقم "بالعمق" سوف نردّ، سوف يدفع الاحتلال الثمن، وأي شهيد يسقط نعلن أنه قائد المنطقة الشمالية أو الجنوبية!! وكأننا قوة متكافئة نستطيع الدفاع عن أنفسنا! لماذا لا نفعل بصمت؟!!

تحدثتِ عن دور المرأة الفلسطينية بمراحل تاريخية مختلفة.. وأقول: يؤسفني أن دور المرأة قد تراجع، خاصة في السنوات الأخيرة، حيث يتم إعادة التخلف بوسائل مختلفة، وتشن حرب ضد المرأة من كافة الجوانب، وتتنامى الأصولية. المرأة الفلسطينية تستحق الأفضل، والرجل الفلسطيني يجب أن يفيق من غيبوبة رجوليته وذكوريته الكاذبة. يقول لينين: "أكشط جلد الشيوعي بخصوص المرأة تجد عفناً!". وأضيف: أقشط رأس المرأة بخصوص المرأة تجد عفناً! المرأة يجب أن تحرر نفسها، مما ورثته عن أمها من معتقدات بالية، ويكفيها انحناء للعاصفة، ولتغيِّر مصيرها، وهذه مسؤوليتنا جميعاً…

قلتِ: على القوى الديمقراطية أخذ موقعها، في ما يجري على الساحة الفلسطينية. أسألك: عن أي قوى ديمقراطية تتحدثين؟ إن ما يسمى بالقوى الديمقراطية، ليست سوى نخب تحاور بعضها. هذه حقيقة مؤلمة، فلنواجهها بصراحة. القوى يجب أن ترتبط بفعل جماهيري. أين هي تلك الجماهير؟! كيف يمكن أن تكون قوى مؤثرة، وهي منقسمة إلى مائة لون؟ لم نتعلم من تجربة أمريكا اللاتينية، وعجزنا كقوى تقدمية عن التطور والتجديد. تكلسنا باختصار… لم نستخدم أدواتنا لقراءة الواقع. تعاملنا مع الواقع كتغيير، وأصبحنا أنفسنا قالباً جامداً.

أحبكِ رفاقي الأسرى.. وقال أحدهم: "إنها كالبسمة تحت القصف!" لقد تحدثتِ عن الأسرى بشفافية وصدق. لم نفقد البوصلة.. نستطيع التمييز بسهولة بين من يستذكر الأسرى لتسويق نفسه، وبين من يستذكرهم بألم ويستحضرهم بأمانة. لقد ذكرتِنا بأمانة؛ لكني أصارحك بأننا لا نستحق هذه الأمانة… فانقسام الخارج ألقى بظلاله على واقعنا، وتعمقت الكراهية عندما اختلطت مع الجهل الفئوي".

 

*****

أي شادي،

من هم الأسرى؟ أنتم أم نحن؟! من يزرع الأمل غيركم؟! من يناقش بعمق وشفافية مثلكم؟!

وأقولها بثقة: من يستحق الأمانة أكثر منكم؟! يا من نذرتم أنفسكم لأنبل القضايا وأشدها إلحاحاً منذ أقدم العصور حتى اللحظة، قضية الحرية. صدِّقني: الكلام ليس عاطفياً رغم أنه يبدو كذلك؛ إذ رغم الشرخ العميق والانقسام الذي ظلل حياتكم وحياة الفلسطينيين، أينما وجدوا؛ سوف تجدون ما يجمعكم، فلا يوجد مجال للكراهية بينكم، وأنتم تواجهون جلادكم. كلي ثقة بأنكم سوف تبادرون، بما يحقق الوحدة الوطنية بين أبناء الوطن، كما فعلتم دائماً.

*****

 أنهي رسالتي بوَصلة العشق، كما وصفتَها، في مستهلّ رسالتك. أرددها اليوم لأردَّها إليك: أنثر كلماتك شادي.. أنثر كلماتك يا عباد الشمس.. بعثرها في الساحات.. بعثرها في الوديان.. زلزل أركان الدنيا يا عباد الشمس.. وليعلُ صوتك.. ولتبحث عن لغة الوصل المقطوعة.. عن أصل الأشياء.. دقَّ الأرض بأقدامك.. ولتُسمع كل الدنيا نغماتك.. ثبِّت أقدامك بالجذر.. وعانق شمس حياتك.