أرشيفات الشعوب: استقراء الماضي لصنع المستقبل

اهتمت الديكتاتوريات، عبر العالم، بتأسيس أرشيفات للأفراد؛ ليس كتعبير عن الاهتمام بهم، أو احترامهم كمواطنين/ نساء ورجالاً؛ بل للاهتمام بهم كموالين أو معارضين، ولذا اهتمَّت بملاحقتهم عبر تتبع أخبارهم الخاصة، بوسائل متعددة، ووضع هذه الأخبار في ملفات صفراء، تحفظها ضمن أرشيفات، توضع في مراكز البوليس، أو مباني المخابرات، وتستخدمها للتهديد، أو للقمع، أو للاعتقال، وأحياناً كمبرر للقتل.
وكذلك شأن الملفات الحكومية. في الوقت الذي يفترض فيها تسهيل حياة المواطنين/ات؛ نجدها تستقر في الأذهان؛ بصورة ملفات تعلوها الغبار؛ الأمر الذي يجعلنا ننظر إليها باستخفاف، ولا نحس بعلاقة معها من قريب أو بعيد.
هل تغير هذا المفهوم عبر الزمان؟! هل تغير المفهوم بعد سقوط بعض الديكتاتوريات في العالم؟ وبناء بعض الديمقراطيات؟! وهل يمكن أن تتحول الأرشيفات من ملفات صفراء تستخدم ضد المواطنين/ات؛ إلى ملفات تحقظ ذاكرتهم/ن، الشخصية والجماعية؟! وتجعلهم يتعرفون على ماضيهم بشكل عميق؛ مما يساهم في بناء الديمقراطية بمضمونها التشاركي العميق، والانطلاق نحو المستقبل؟!

*****
نوقشت أهمية الأرشيفات الرقمية للقصص الشخصية، لأفراد الشعوب التي تعاني من النزاعات؛ بعلاقتها ببناء السلام، بتاريخ 17-18 تشرين الثاني، في مؤتمر عالمي، بعنوان: (Accounts of the Conflict: Digitally Archiving Stories for Peacebuilding)، نظمه البرنامج العالمي لحل النزاعات، في جامعة ألستر (INCORE)، في بلفاست/ إيرلندا الشمالية. هدف المؤتمر إلى تسليط الضوء على الاستفادة من الأرشيفات الشخصية لصنع السلام. وركز على ثلاثة محاور، أولها: المنظور الأخلاقي في أرشفة ونشر القصص الشخصية، والثاني: المنظور العملي في التطبيق العملي للأرشيف، والثالث: المنظور الفكري في نشر وتوزيع الرواية الشفوية، لهدف بناء السلام والتغيير الاجتماعي.
استمع أعضاء المؤتمر، إلى تجارب متعددة، من مناطق النزاع، حول الأرشفة وحفظ الذاكرة، منها تجربة إيرلندا، والأرجنتين، وإسبانيا، والهند، وجنوب إفريقيا، وفلسطين. كما تعرف اعضاء المؤتمر على تجارب متقدمة في بناء الأرشيفات الرقمية، مثل تجربة جامعة كنتاكي في الولايات المتحدة الأمريكية، وشاهدوا ثلاثة أفلام وثائقية استفادت من الأرشيفات الشخصية، كما نوقشت من خلال الجلسات الموازية وسائل فنية متعددة لاستلهام الذاكرة الفردية، منها السينما، والحياكة، والمعارض. كما نوقشت المشكلات والتحديات التي يمكن أن تنتج عن نشر الأرشيفات الشخصية للأفراد، عبر الاستماع إلى تجارب عالمية متعددة، ومتنوعة.
واحتفل منظمو المؤتمر مع الأعضاء، بإطلاق الصفحة الإليكترونية للبرنامج العالمي لحل النزاعات/ جامعة ألستر، والتي سوف تساهم في حفظ الذاكرة، وفي الحقل الأكاديمي، والعلمي، وفي صنع المستقبل.
*****
في جلسة موازية بعنوان: “أرشيفات، إقصاء، وأصوات منسية”، تم استعراض الأصوات التي يتم إقصاؤها في زمن النزاعات والحروب والعدوان، وسلط الضوء على أكثر القصص المنسية، من خلال تجربة الهند، وإيرلندا الشمالية، وفلسطين.
تحدثت عن التجربة الفلسطينية في حفظ ذاكرة النساء الفلسطينيات المهمشات، اللواتي يصنعن التاريخ مع الرجال؛ لكن التاريخ الرسمي لا يسجل إسهاماتهن بما يليق بإنجازاتهن، مع تسليط الضوء على التجربة الفلسطينية المؤلمة، التي تعرض خلالها الأرشيف الفلسطيني للتدمير، والسرقة، عبر تاريخ القضية الفلسطينية.
وبشكل جميل ومؤثر، تقاطعت تجربة فلسطين مع تجربة الهند وتجربة إيرلندا، التي تحاول إعادة كتابة التاريخ الاجتماعي، من خلال التركيز على الفئات المهمشة، التي تم إسكات صوتها، أو نسيانه.
ركزت تجربة الهند على النساء اللواتي تم إسكاتهن زمن التقسيم، عام 1947، الذي شهد أكثر اللحظات عنفاً في تاريخ الهند، وعلى عذابات التهجير، التي شابهت عذابات تهجير الشعب الفلسطيني عام 1948، وأثر التهجير على حياة النساء، اللواتي تعرضن للاغتصاب، والقتل، والاختطاف، من جانب، وعانين ظلم مجتمعهن من جانب آخر.
وركزت تجربة إيرلندا، على قصص الناس العاديين، التي لم توثق، أثناء النزاعات العنيفة التي شهدتها إيرلندا في الستينيات، ومنها قصص جرحى الأحداث الدموية، في الستينيات، الذين عانوا ضغوطاً سياسية، وعائلية، ومجتمعية.

*****
تميز معرض حياكة حكايا النساء، زمن النزاعات (Textile Accounts of Conflicts)، أنه جاء في صلب برنامج المؤتمر وأهدافه. حملت قصص النساء، اللواتي عانين القهر والظلم والعدوان والاحتلال والاستعمار، رسائل متعددة لأعضاء المؤتمر، وأعطت مثالاً عملياً على إمكانية نشر القصص الشخصية للأفراد، زمن النزاعات، عبر أكثر من وسيلة فنية.
تجاورت عذابات الشعوب وتعانقت: العذابات الناجمة عن نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وعذابات أهالي المفقودين والمعتقلين السياسيين، في تشيلي، والأرجنتين، وعذابات المهجرين الأفغان، والإيرلنديين، والكولومبيين، وزيمبابوي، والإسبان، والبرازيل.
شاركت فلسطين في المعرض، من خلال لوحة رائعة باسم “أقواس القدس”، أنتجها مركز التراث الفلسطيني، كما شاركت من خلال لوحة جميلة باسم “الرصاص المصبوب”، وثقت لشهداء غزة، إثر العدوان الإسرائيلي على غزة، عام 2008/ 2009، أنتجتها متضامنة ألمانية مع فلسطين، عبرت عن الذعر الذي انتابها إثر معرفتها بنتائج بالعدوان: “النساء والأطفال يعانون أكثر من غيرهم. في قطاع غزة استشهد 760 مواطن/ة، خلال العدوان. جرحت بعمق. حِكتُ 760 خيطاً بعناية، كل خيط مثَّل حياة تم اغتيالها. من خلال حياكتي استطعت استعادة قوتي قطعة قطعة”.
*****
ضمن جولة سياسية في بلفاست، شاهدت رسوم الغرافيتي، على جدران، تعلن تضامنها مع ثورة الشعب الفلسطيني، وخاصة مع أسرى الحرية، منها لوحة رائعة لأيدي متشابكة، تروي قصص معتقلي إيرلندا، الذين خاضوا إضرابات عن الطعام، عام 1981، ومعتقلي فلسطين، الذين خاضوا إضرابات مماثلة، عام 2012، مما يضيف إلى أرشيف ثورات الشعوب، التي تناضل من أجل الحرية. ومن اللافت مشاهدة العلم الفلسطيني يرفرف على بعض البيوت، والمؤسسات غير الحكومية، جنباً إلى جنب مع علم إيرلندا الشمالية.
قمت بزيارة لأضرحة بعض مناضلي الحرية الإيرلنديين، ومنهم من خاضوا أطول إضراب عن الطعام، في تاريخ معتقلات إيرلندا، كما قمت بزيارة النصب التذكاري، لمن قضوا غرقاً، عام 1912، على ظهر أكبر باخرة أقلت ركاباً في العالم/ تايتانيك.
وحين رفعت رأسي إلى الأعلى؛ شاهدت عبارة مكتوبة فوق أعلى الجبال، تصلح أن تكون شعاراً تضامنياً بين الشعوب التي عانت، وما تزال تعاني من التقسيم والتجزئة والتشرذم، عبر العالم: أنهوا التقسيم.

د. فيحاء قاسم عبد الهادي
نشرت تحت ظاهرة عالمية/ يوم 30 تشرين الثاني 2014، على صفحات الأيام