السَّواد يلفّنا: من يتحمل المسؤولية؟ من؟

السواد ينسج خيوطه حول بيوتنا، وحوائطنا، وقلوبنا، ويلفّنا من المحيط إلى الخليج،
من يتحمل المسؤولية؟ من؟

الموت يضلّ الطريق، ويدقّ أبواب الأطفال والشباب، فتيات وفتياناً، نساء ورجالاً،
من يفتح الأبواب له؟ من؟

من المسؤول عن القتل، والشنق، والحرق، والاغتصاب والذبح من الوريد إلى الوريد؟ من؟

هل هو الاحتلال؟ الاستعمار؟ الفقر؟
هل هي ثقافة أبو جهل الموروثة؟ سياسة الديكتاتوريات؟ سياسة العسكرة؟ غياب الديمقراطية؟ تكميم الأفواه؟ التعصب الديني؟ الطائفي؟ شلل الاجتهاد الديني؟ أم مزيج من هذا كله؟

*****
هناك من يلقي اللوم على الثورات الشعبية ضد الديكتاتوريات العربية، معتبراً أنها مؤامرة غربية، مشككاً بدوافع قيامها، ومعتبراً أن البلاد العربية غير مؤهلة للديمقراطية، وأنه لا غنى عن الحكم الديكتاتوري، ذي القبضة الحديدية؛ لضمان الأمن والأمان، وأن (داعش) هي أبرز إفرازات هذه الثورات.
وأعتقد أن هذا الحكم يدير الظهر للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية للشعوب العربية، التي تتفاقم يوماً بعد يوم؛ والتي أدت إلى ثورات شعبية ضد الديكتاتوريات التي اغتنت على حساب الشعوب، وسرقت ونهبت، وربطت نفسها بسياسات الغرب، بتبعية مذلة، دون الاكتراث بتوفير حياة كريمة لشعوبها؛ حتى بات الملايين يسكنون في المقابر، والعشوائيات، ويعيشون ظروفاً غير إنسانية، ويزجون في المعتقلات لأبسط الأسباب، حيث يهانون ويذلون ويعذَّبون بلا رحمة. لا يستطيعون التعبير عن آرائهم، أو حتى التنفس بحرية؛ الأمر الذي راكم الغضب في نفوس العديد من أبناء الشعوب العربية؛ حتى اندلعت شرارة الغضب، حين أتت اللحظة المناسبة. أشعل “بو عزيزي” النار في نفسه، غضباً ويأساً، وانطلقت الشعارات التي جسدت تطلعات الشعوب العربية، على امتداد الوطن العربي الكبير: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، تحت شعار جامع، التقت حوله الثورات العربية: الشعب يريد إسقاط النظام.
لم يتحقق هذا الشعار في معظم بلاد “الربيع العربي”. لم يسقط النظام القائم على الاستغلال والظلم والطغيان؛ وإن سقط رأس النظام.
لم تتحقق ثورة اجتماعية بالتوازي مع الثورات الشعبية، ولم تصاحب الثورات الشعبية ثورة ثقافية. استلمت الثورة المضادة مقاليد السلطة، وحرصت على الإبقاء على التبعية الاستعمارية، ولم تقدم حلولاً اقتصادية أو اجتماعية تلبي مطالب الملايين العربية؛ مما جعل حلم تحقيق العدالة الاجتماعية يبدو بعيداً جداً، وصعب المنال؛ إن لم يكن مستحيلاً.
*****
ما يحدث من جنون إرهابي يفوق الخيال، أمام أعيننا؛ يطرح سؤالاً مشروعاً: كيف وبأية وسائل يمكن مواجهة الإرهاب؟ هل يمكن أن يتم القضاء عليه بشن غارات جوية وقصف مدفعي على التنظيمات الإرهابية؟
وإذا افترضنا أن الغارات الجوية والبرية قضت على معظم أفرادها، وأضعفت بقيتهم؟ ما الذي يضمن ألاّ تنبت جماعات إرهابية بمسميات جديدة؟!
كيف يمكن مواجهة الأعمال الوحشية اللاإنسانية لأبرز تجليات هذا الفكر؟ باستخدام سلاحهم وأدواتهم من حرق وذبح وصلب ورجم واغتصاب؟ بمحاججتهم دينياً؟ رغم الاعتراف والتسليم بأن أعمالهم لا تمت إلى الدين بصلة، أم بالعمل على اجتثاث الفكر الإرهابي من جذوره؟!

*****
تداولت الكثير من المواقع الإليكترونية محاججات دينية وفقهية وسياسية، تمحور معظمها حول الحديث عن سماحة الدين الإسلامي، وبراءته مما ينسب إليه من أعمال يندى لها جبين الإنسانية، وجرى النبش في التاريخ القديم عن وقائع تثبت أو تنفي صحة ما يدَّعيه التنظيم الإرهابي من الاقتداء بالرسول الكريم، أو الصحابة.
وإذا كان هذا التنظيم وغيره من التنظيمات الإرهابية يستخدم الدين لأغراض سياسية واضحة، بعيدة كل البعد عن روح الدين السمحة والرحبة؛ يصبح هذا المدخل خاطئاً وعقيماً؛ ولا يفضي إلى شيء، ولا يجدر الانشغال فيه.
الأحرى أن ننشغل باستبعاد الدين عن أي جدال عقيم يزيد الأمور تعقيداً. الدين لله والوطن للجميع.

*****
كيف ولماذا ينضم العديد من الشباب إلى مثل هذه التنظيمات، رغم تشددها، وقسوتها، وإجرامها؟
سؤال كبير يستدعي وقفة مطوَّلة وعميقة. علينا أن نواجه التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بجسارة ومسؤولية؛ كي نبني مجتمعات تحترم الإنسان، وتحترم حقه في حياة حرة كريمة، حيث يجد المواطن في بلاده ما يحتاج من رعاية صحية ونفسية وجسدية.
نحتاج أن نستغل مواردنا الطبيعية الهائلة، وطاقاتنا، وقدراتنا الذاتية اللامحدودة؛ لننتج ما يغذينا جسداً وفكراً وروحاً، وما يمكن أن نصدِّر من إنتاج؛ حتى يمكننا التخلص من التبعية الاستعمارية، والتبعية الثقافية.
وحين يجد الإنسان العربي، نساء ورجالاً، فرصاً متعددة للعمل، حين يتنفس بحرية، ويعبر عن رأيه بحرية، وحين يمتثل للمساءلة وحكم القانون، دون تمييز عرقي أو مذهبي أو طائفي أو جنسي؛ وحين تتحقق العدالة الاجتماعية؛ سوف ينغرس الإنسان العربي في وطنه، ليبني ويبدع ويجدد ويضيف إلى الإرث الإنساني. وحينها فقط؛ تصبح مثل هذه التنظيمات ماضياً غير مأسوف عليه.