تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

بأس جنين وبؤس الاحتلال

كيف تجلّى بأس جنين، أثناء اجتياح الجيش الإسرائيلي للمدينة والمخيم، في الثالث من تموز/يوليو، 2023، وكيف تجلّى بؤس الاحتلال الإسرائيلي الاستعماري، خلال الاجتياح؟

استخدم جيش الاحتلال أنواع الأسلحة كافة أثناء عدوانه؛ الدبابات، والجرّافات، والآليات العسكرية، والطائرات الحربية، والمسيّرات، بالإضافة إلى القنّاصة والوحدات الخاصة؛ ليقتل، ويعتقل، ويحرق، ويدمِّر، ويفجِّر، ويجرف، ويطهِّر عرقياً.

وقاومت مدينة جنين ومخيمها الاجتياح ببسالة وعزيمة، كما قاومته منذ واحد وعشرين عاماً؛ لكنها طوَّرت أدوات مقاومتها، ليمارس ثوّارها بعض أساليب حرب العصابات، التي يتّبعها المقاومون عادة، حين تكون المعركة غير متكافئة بين المعتدي والمعتدى عليه؛ بين المحتلّين المستعمرين وأصحاب الأرض.

مدينة جنين مدينة أبنائها، ومخيم جنين مخيمهم، يعرف مناضلوها كل حارة وشارع وزقاق من بلادهم، ولذا فهم الأقدر على التحرّك حسبما يقتضي الأمر، يكِرّون ويفرّون؛ أضرب واهرب، أوجِع العدو وحافِظ – قدر ما تستطيع – على حياتك وعلى قواك، شَتِّت انتباهه، واستنزفه وامنع تقدّمه، وانسحب حين تكون الكفّة راجحة في يده، ونتيجة القتال ليست في مصلحتك، وفاجئه كي يتكبَّد خسائر لم يتوقعها.

تجلّى بأس جنين في مقاومتها الضارية، وحاضنتها الشعبية، وفي صمودها الأسطوري، وإيمان أبنائها بأنها تستطيع ردّ المعتدي، ومنعه من تحقيق أهدافه، وأنها عصيّة على الكسر، وقادرة على الانتصار.

وتجلّى بؤس الاحتلال، في عدم استطاعته تحقيق أهدافه في كسر المقاومة، عبر التخطيط لاغتيال المناضلين، ونزع سلاحهم، وفكّ اللحمة بين أبناء الشعب الواحد؛ مما جعله ينسحب من جنين بعد ثمان وأربعين ساعة من بدء العدوان.

*****

توحَّد المناضلون بمختلف انتماءاتهم في الميدان، ووضعوا خطة للتصدي للعدوان، والتفَّ الناس حولهم لدعمهم بحب وفخر لا حدّ لهما. رفضوا إخلاء المخيّم، لمنع استفراد الاحتلال بهم. قدَّموا لهم الطعام والشراب والمال، ووضعوا بيوتهم رهن تصرّفهم، كما يتبيَّن من رسالة دالة ومؤثِّرة، تركتها عائلة فلسطينية في منزلها، حين أجبرت على تركه، ووجدها واحد من المقاتلين:

"الأكل والمونة في الدار وفي البرّاد، وفي باب خلفي بيطلع على حوش جيرانا لو تريدون تنسحبوا، وفِداكم الدار طوبة طوبة، المهم تبقون بخير، في 700 شيكل في الفريزر، لو لِزِمكُم مصاري، الله يحميكم ويأخذ بيدكم".

شهد المخيّم تكاتفاً ليس له مثيل بين المواطنين؛ نساء ورجالاً "إحنا بالمخيم غير"، منهم من حوَّل منزله إلى مطبخ لإعداد الطعام والشراب لكل من يحتاجه، ومأوى لمن تكون بيوتهم معرّضة للقصف، ومنهم من تسلَّل رغم - القصف والخطر - إلى صيدلية كي يحضر دواء لمريض، وعدد منهم استخدم هاتفه المحمول لإنقاذ المعرَّضين للقصف والقتل، كما علَّق أهالي المخيم في الشوارع الداخلية، أغطية من القماش والنايلون فوق أسطح المنازل؛ حماية للمقاومين وأماكن تواجدهم، من طائرات الاستطلاع والقنّاصة الإسرائيليين.

وتبدّى التكاتف أيضاً خارج المخيم، في أجمل وأصدق أشكاله؛ في مدينة جنين، ومدن فلسطين جميعها، وفي الشتات، حيث تسابق الفلسطينيون إلى دعم المخيم وإسناده، بكل الوسائل الممكنة.

*****

ويبقى السؤال مفتوحاً، وماذا بعد؟ كيف نبني على ما حدث؟ وما الذي نحتاجه إلى جانب الصمود والتصدّي وردّ العدوان الهمجي المتواصل، ومنع العدوّ من التقدّم؟

ما هي خطتنا لإنهاء الاحتلال الاستعماري الاستيطاني العنصري على أرضنا؟ وتنسّم الحرية؟

كيف ننتصر لشهدائنا وأسرانا وجرحانا؟ وكيف ننتصر لأطفالنا الذين أصابهم الرعب والخوف، وتعرَّضوا لأزمات نفسية حادة، جرّاء القصف العنيف، والغارات الجوّيّة، وإطلاق القذائف والرصاص والقنابل والصواريخ، وهدم البيوت، وتجريف الشوارع، وقطع شبكات المياه والكهرباء، وتهجير العائلات.

لا شكّ أن الدعم الفلسطيني والعربي والدولي مهم جداً، ولكن الأهم أن نراجع أنفسنا مراجعة جادة؛  ما دام الاحتلال يتحكّم بحياتنا وأنفاسنا.

وإذا اتفقنا على أننا في مرحلة تحرّر وطني؛ علينا أن نغيِّر جذرياً أساليب نضالنا، وبنيان مؤسَّساتنا، وطريقة أدائنا، حتى لا نكرِّر ما ثبت فشله، ليس باعتراف الجميع فحسب؛ بل بالوقائع العنيدة على الأرض.

فشل مسار أوسلو باعتراف العدوّ قبل الصديق، وعلينا أن  نكفّ عن لوم وتخوين وإقصاء من يختلف معنا، وأن نتحاور للوصول إلى قواسم مشتركة، تتيح العمل المشترك، ضمن مشروع وبرنامج وطني، يقودنا إلى التحرّر من الاحتلال، والاستقلال الوطني، ودون ذلك سوف نبقى ندور في دائرة مفرغة، يمكن أن تقودنا إلى الهاوية.