تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

فاطمة/ ناجي العلي: لا تساوم/ أرسم وقاوم*

إذا كان "حنظلة"، الذي أنجبه "ناجي العلي"، في 5 حزيران عام 1967؛ قد شكَّل الأيقونة التي حفظت روح الفنان من الانزلاق؛ فإن "فاطمة"؛ قد شكَّلت بوصلته، عبر امتداد حياته الفنية.

تصدَّرت "فاطمة" معظم رسوماته. ورغم أنه رأى من خلالها: قيم الحق والخير والجمال الإنساني، فكانت رمزاً للأرض، وللصمود، وللمقاومة؛ إلا أنه رأى الإنسان العادي، الذي يشقى، ويكدح، ويقاوم شروطه الإنسانية الصعبة، ويستمر؛ ما جعلها تجمع بين الرمز والواقع، وبين الخاص والعام.

مثلت "فاطمة" الوجدان الجمعي للشعب الفلسطيني، وضميره الحيّ. وكغالبية أبناء الشعب الفلسطيني؛ لم تذق فاطمة شيئا من رغد العيش؛ بل عاركت الحياة وعركتها، فأكسبتها حكمة وبصيرة، لم تضنّ بها على زوجها، أو أبنائها، أو شعبها.

شاركت الرجل الطيب حياته ونضاله؛ لكنها لم تشاركه يأسه، ولم تستسلم للهزيمة قط. ورغم أن حياتها كانت بائسة، وفقيرة؛ كما حياة "حنظلة" وزوجها؛ إلا أنها كانت تحرص على جمال مظهرها، فتكحِّل عينيها الجميلتين، بكحل طبيعي حيناً، وبعلم فلسطين حيناً آخرـ وتضع سلسلة على صدرها (مفتاح العودة)، وقرطاً على أذنيها (قنبلة يدوية)، وتلفّ وشاحاً حول عنقها، أو كتفيها (الكوفية)، وتلبس ثوباً ولا أجمل؛ هو الثوب الفلسطيني بألوانه الزاهية، وتزيِّن شعرها مرّة بالغطاء التقليدي للمرأة الفلسطينية، ومرة بورود جميلة، محررة شعرها من كل قيد. أما لوحة "عائدون"، و"الصبار، و"خارطة فلسطين"، المرسومة بألوان الكوفية الفلسطينية، و"كف فاطمة"، و"الأمل/ الزهر"، و"القمح الذي ينبت مع الأسلاك الشائكة"؛ فكانت تزيِّن بها جدران بيتها.

وحين نستعرض الرسومات التي تظهر فيها؛ نراها غالباً تنتصب شامخة، وعلى صدرها مفتاح العودة، أو حزينة، ودمعها على خدِّها، وعلى صدرها أيضاً مفتاح العودة؛ في حين نرى زوجها الطيب، غالباً، يضع يده على خدِّه، حائراً وحزيناً. أما "حنظلة" فنلاحظ أنه ينظر إليها، في عديد من اللوحات؛ وهو يدير ظهره إلى الزوج وإلينا.

 

وتصرّ "فاطمة" أن تحكي حكاياتها كل ليلة لأولادها؛ إلى أن يقاطعها زوجها الطيب: "أسكتي يا فاطمة، إنتِ كل ليلة بتحرضي بحكاياتك، الظاهر ناوية تترمّلي".

لا تخاف، وتمضي في حثّ أولادها على حبّ الوطن وحبّ الحياة؛ فتقول لولدها الذي يعشق الرسم:

" أرسم شجرة/ أرسم عشرة/ لوِّن بستانك بالأخضر/ لوِّن رمانك بالأحمر/ لوِّن بالعنبر والحنِّة/ لوِّن ألوان الجنة/ لا تساوم/  أرسم.. قاوم".

 

وفي مواجهة العدوّ الذي يريد تغيير معالم فلسطين، والقيادات الفلسطينية، التي تقبل بذلك التغيير، وبينما يضع زوجها يده على خدِّه؛ تحث "فاطمة" ابنتها وزوجها، على رسم فلسطين كما هي، دون تغيير أو تحريف: "يا زلمة، خليها ترسم فلسطين على الحيطان.. أرسمي يمَّه واحفريها حفر كمان، واكتبي: فشروا. أكتبها لكل أخو شليتة بِدّو يرسم فلسطين غير فلسطين اللي بنعرفها". 

 

تقود فاطمة المظاهرات، مرددة شعارات تعبِّر عن شخصيتها كامرأة تسعى للبناء، وكفلسطينية تدعو للصمود، وللمقاومة بأشكالها كافة:

"اليوم الوقفة وبكره العيد        وبدنا نعمِّر بيت جديد

بنكتب صَمَدَ على الباب          وع الجدران نرسم بواريد".

 

ولا تتردَّد فاطمة في وصف الأشياء بأسمائها؛ فنراها تصوِّب كلام زوجها، الذي يحاول أن يقرأ المشهد العربي، بشكل سياسي: "غلطانة يا فاطمة.. بالنسبة لقضيتنا بيضل فيه نظام ألطف من نظام"، لتجيبه بشكل حادّ وقاطع: "أنا اللي غلطانة يا زلمة؟! واللا إنت صرت خرفان من كثر ما لخموك بإعلامهم؟!".

 

وهي لا تنتقد الأنظمة العربية فحسب؛ بل تنتقد القيادات الفلسطينية المتخاذلة أيضاً؛ فتناول الأولاد الحجارة؛ ليرجموا المحتل والقيادات الفلسطينية المتخاذلة معاً.

ويتضح سبب نقمة "فاطمة" على الأنظمة العربية والتنظيمات، في لوحة موجعة: بينما يعلِّق الزوج الطيب صورة أبنائه الشهداء الأربعة؛ تعاتبه فاطمة بمرارة: "- كله منك.. إحبلي يا فاطمة..وخلفي يا فاطمة.. فلسطين بدها رجال يا فاطمة.. والآخر يستشهدوا واحد ورا الثاني دفاعاً عن التنظيم والأنظمة! يا مصيبتك يا فاطمة!".

 

وفاطمة الرمز؛ هي ليست المرأة الفلسطينية فحسب؛ بل هي العربية؛ اللبنانية، والتونسية والعراقية، والسورية، والمصرية. وهي المسلمة والمسيحية، لا فرق بين ديانة وأخرى، أو طائفة وأخرى. وفي لوحة معبِّرة تتعانق فاطمة وفاطمة: واحدة يعلو صدرها القرآن الكريم، وواحدة يعلو صدرها الصليب، في إشارة إلى الأخوة والوحدة والمصير المشترك.

 

وفي إشارة إلى وحدة المصير بين فلسطين ولبنان؛ نجد "فاطمة"/ بيروت في لوحة؛ تودِّع المقاتلين، المغادرين إلى المنفى، متكئة على عصا، بسبب إصابتها أثناء العدوان الإسرائيلي، وتلوِّح لهم، دامعة العينين، بكوفيتها. وفي لوحة ثانية؛ توجِّه القذائف، من صدرها، ضدّ المحتل الإسرائيلي.

وبينما يدير "حنظلة" الظهر لنا وللعالم؛ يقدّم وردة لفتاة/ بيروت، التي تطلّ من فجوة أحدثتها قذيفة، ويقول لها: "صباح الخير يا بيروت".

 

وهي مرَّة عين الحلوة، ومرَّة أخرى صبرا الجريحة والمقاومة في آن؛ فهي تتوعَّد المحتل قائلة: صبراً؛ في مفارقة ذكية.

وهي المصرية، التي تحمل العلم الفلسطيني، وتضع الكوفية الفلسطينية على كتفيها، وتكتب على ثوبها: "مصر أم الدنيا". وتحتضن "سليمان خاطر"، مع زميلاتها، المتشحات بالسواد:

"- من عيونه السود الحلوين.. باين العين دي مصر والعين دي فلسطين..".

وفي موقف رافض لمعاهدة كامب ديفيد؛ تقطع "فاطمة" على نفسها عهداً: "نذرٍ عليّ إذا شعب مصر تخلص من كامب ديفيد.. والشعب العربي وعي مصلحته وفرض الوحدة.. لأشلح الأسود وألبس فستاني الزهر.. وأرقص من المحيط إلى الخليج.. وأوزّع حنَّة على كل صبايا الوطن العربي".

 

*****

"فاطمة" هي الإنسان العادي الكادح، الرجل والمرأة، التي ترى أبعد من الشعار، وتربط بين البعد الوطني والقومي والطبقي. فاطمة هي الحلّ، حين يستعصي الحل، وهي العين التي تنظر صوب الوطن، مهما رأت من جمال خارجه.

حين يسألها الزوج الطيب، إذا كانت قد رأت جمال القمر الذي يظهر من مخيم عين الحلوة قائلاً:

"شفت القمريا فاطمة؟" تجيب:

"قمر فلسطين أحلى".

 

  * من ورقة قدِّمت في ندوة "حول الشهيد ناجي العلي"، في أبو ظبي، من تنظيم اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، بالتعاون مع مجلس العمل الفلسطيني، بمناسبة مرور 65 عاماً على النكبة.