حكايا الموسيقى في سجون الاحتلال: “طوبى لمن صمدوا”

هزّتني رسالة "حسن كراجة" – الناشط الحقوقي الشبابي والمجتمعي، والأسير المحرَّر-، التي كتبها في سجن عوفر "مدافن الأحياء"، وأرسلها إلى "معازف" (مجلة إليكترونية المتخصصة في الموسيقى بشكل عام، والموسيقى العربية بشكل خاص)،  في الثالث والعشرين من شهر آب 2017: "يا باي شو ع بالي أسمع":

"الأعزاء في معازف: تحية معطرة بالصمود والمواجهة، تحية لصمودكم في وسط هذا المعمعان الدائر في العالم، الذي يحاول قتل كل جميل، ونشر كل قبيح..طوبى لمن صمدوا".

أعادتني الرسالة إلى ذكريات تتجدد منذ أعوام وأعوام، كلما جرى الحديث عن الظروف اللاإنسانية التي يعيشها المعتقلون/ات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وعن تفاصيل عزلهم عن العالم، وعن وسائل حرمانهم من أبسط حقوقهم، وكلما سمعت عن وسائلهم المتنوعة لمقاومة شروط قهرهم.

كيف يكون غياب الموسيقى من حياة المعتقلين/ات وسيلة تعذيب تضاف إلى وسائل التعذيب المتنوعة!

"في هذه الظروف التي نعيش؛ لا يمكن حصر أشكال التعذيب والحرمان! وأحد أشكالها الحرمان من الموسيقى، أو الأغنيات التي نرغب، من حيث الكمّ والنوع والظرف".

 وكيف يكون الاستماع إلى الموسيقى والأغنيات مصدر فرح وحزن في الوقت ذاته!

"لما كانت "ثمينة" تحكي لي إن "معازف" مَنشَنَتي بأغنية؛ كنت افرح وأحزن، أفرح للمساندة وأحزن لأني محروم أسمع ها الموسيقى، ها الأغنية.. لما كانت تحكي إنها مَنشَنَتني، أو سمعت عني وعنها موسيقى معينة أو أغنية؛ كنت أفرح وبنفس الوقت أعيش الحيرة..شو ها الأغنية: لحنها؟ توزيعها؟ كيف بدي أعرف وانا مش سامع؟!". 

*****

أعادتني رسالة "حسن كراجة" إلى الماضي البعيد، وبالتحديد إلى عام 1969؛ حين شكلت الأغنيات التي تموسقت على شفاه فتيات صغيرات، داخل سجن نابلس المركزي؛ عامل صمود وتحفيز وتماسك للصبايا:

لم يتوفر لدينا في ذلك الوقت جهاز راديو، ولا هاتف ذكي؛ لكنّا استعضنا عن كل ذلك بذاكرتنا، وبحسّنا الموسيقي الفطري، وكانت أغاني الثورة الفلسطينية في ذلك الوقت طازجة في ذاكرتنا؛ الأمر الذي جعلنا نستعين بها في تقريب المسافات بين الفتيات اللواتي اعتقلن على خلفية الانتماء إلى تنظيمات سياسية متعددة:

"باسم الله، باسم الفتح، باسم الجبهة الشعبية، باسم الدم، باسم الجرح اللي بينزف حرية…باسمك باسمك يا فلسطين، أعلنّاها للملايين، عاصفة، صاعقة، عااااااصفة".

 كنا مجموعة فتيات صغيرات، أعمارهن بين ال 15-27. وكانت معنا الوالدة "عصام عبد الهادي"، التي لم تتجاوز الأربعين، والتي شكّل وجودها مع الصبايا مصدر أمان وثقة لهن بالفجر القادم: "ليس بعد الليل إلاّ فجر مجد يتسامى".

كنّا نتحلق حولها لنستمع ونتحاور ونتعلم. تعلمنا منها الأغنيات التي كان يرددها الثوار منذ الثلاثينيات، مما استقر في ذاكرتها، وأغنيات تصف جمال فلسطين، وتحث على الاحتمال والصمود والتمسك بالمبادئ:

""يا بلاد الهنا..أنتِ كلّ المنى..أنتِ دوماً لنا..إننا ها هنا..يا بلاد الهنا..يا بلاد الهنا..يا فلسطيننا..يا ابنة الأكرمين..سوف تلقيْننا في الوغى سالمين..عربٌ إننا لا نَني لن نلين..يا بلاد الهنا..يا بلاد الهنا".

*****

استخدمنا الموسيقى كشفرة سرية تربط بيننا. حين تصل معتقلة إلى السجن، كنا نغني: "أهلاً وسهلاً شرَّفونا حبابنا"….أهلاً وسهلاً شرَّفتنا…..ونذكر اسمها، كي تعرف جميع الأقسام بوصول معتقلة جديدة. وكنا نمارس التشفير من خلال تغيير كلمات أغنيات معروفة لبعض المطربين، كي تلائم الرسالة التي نريد إيصالها. كمثال على ذلك، غيَّرنا كلمات أغنية معروفة للمطربة "صباح"، كي تتلاءم مع إيصال رسالة لمعتقلة جديدة وصلت، أو مع إيصال رسالة من سجينة إلى رفيقاتها بعد عودتها من التحقيق. كنا نغني ما يحث على الصمود في وجه المحققين، وبالذات، في وجه  "بليلة" (رجل المخابرات الإسرائيلي) الذي كان يحقق معنا في ذلك الوقت:

"ع المسكوبية..عا المسكوبية، وصَّلني بليلة..وما طلَّ عليّ عليّ، يا كرباج لالي..دايماً في بالي، وتقوللي اعترفي اعترفي، وانا أقولَّك.. لأاه لأاه، آه يا جنابي يا جنابي".

ولا أنسى ما حييت الخبر الذي وصلنا عن طريق السجانة "راني"، التي أرادت استفزازنا حين سمعتنا نغني سوياً،  غير عابئات بأوامرها: هدوء..هدوء: "إنتوا بتغنوا وبيت سوسن بينهدم"؛ وقبل أن يعمّ الوجوم على الوجوه؛ علا صوت "سوسن الشنار"، وتبعتها أصواتنا:

"أنا صامد صامد.. أنا صامد، أنا صامد صامد.. أنا صامد، وفي أرض بلادي.. أنا صامد، وإن سلبوا زادي ..أنا صامد، وان قتلوا اولادي..أنا صامد، وان هدموا بيتي يا بيتي في ظل حيطانك أنا صامد..أنا صامد صامد..أنا صامد".

ثم انطلق صوت "سهام الوزني" مدوياً: "يا فدائي خللي رصاصك صايب صايب.. يا فدائي وجمِّع شمل الحبايب..دمك عربي..فلسطيني، دربك دربي..فلسطيني، يا فدائي يا فدائي..يا فدائي".

أما حين يغيب النهار أو يكاد؛ وفي ذات الميعاد؛ كان الشوق والحنين يتعاظم للقاء الأهل والأصدقاء والأحباب؛ فتبادر "رندة النابلسي"، لغناء مقطع من أغنية "فيروز":

"غاب نهار آخر، غربتنا زادت نهار، واقتربت عودتنا نهار..غاب نهار آخر..نهار آخر".

*****

أعود لرسالة "حسن كراجة" لأقرأها مراراً؛ لأتأمل حال سجناء الحرية والموسيقى بعد نصف قرن ونيّف؛ فأجد الواقع ليس أفضل حالآ، وإن دخلت بعض وسائل الإعلام إلى حياتهم داخل المعتقل:

"أجهزة الراديو رديئة جداً، نشتريها ب 25 دولاراً، وسعرها الحقيقي 3 دولاراً خارج السجن، خرابها كثير وسريع، وعدد المسموح به محدود جداً جداً جداً. مصادر الموسيقى في السجن (مذياع، تلفاز، مشغل CDs) "تختلف من سجن إلى آخر، وتخضع لضوابط وقيود إدارة السجن إلاّ الإذاعات".

 التلفاز حالياً mbc  دراما، 3 عبرية، ناشيونال جيوغرافيك، العربية. مشغل CDs نوعيات رديئة جداً، الاسطوانات المسموح بشرائها محدود جداً جداً جداً. ما يدخل إلى السجن ألبومات قديمة جداً أو موسيقى تجارية..وبالضرورة الإشارة إلى أنها باهظة الثمن، ولا يوجد تفسير لتلفها السريع جداً".

*****

ينهي "حسن كراجة" رسالته إلى "معازف" بأمنيته أن يستمروا في رسالتهم الفنية الجمالية:

"باتمنى أن تستمروا في زرع الموسيقى في العالم، حتى يأتي موسم حصاد الفرح …

اقترب وقت الحرية، الوقت الذي سألتقي "ثمينة" بدون قيود، و"كنزة" و"ساراي" أيضاً، سأعانق الحياة بحرية.

كلي شغف لهذا، لا شيء غير هذا".