تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

قالت شهرزاد: رواية سهيلة طه: حتى يعود الشهداء

ولما كان اليوم الثامن والثلاثون، لهبَّة القدس الانتفاضيّة، دفاعاً عن الهويّة، ورداً للعدوان، ورفضاً للهوان، وفي اليوم التاسع من تشرين الثاني، من العام ألفين وخمسة عشر ميلادية،  والسابع والعشرين من محرم، من العام ألف وأربعمائة وسبعة وثلاثين هجرية؛ بلغني أيها الجمهور السعيد ذو الرأي الرشيد، أن عدد شهداء الهبَّة من كل فلسطين، بلغ ثمانين، بينهم أربع شهيدات وسبعة عشر طفلاً، وأن عدد المصابين، بلغ ثلاثة آلاف، أصيبوا بالرصاص الحي، حالمطاطي، نتيجة الضرب الهمجي، من المستوطنين ومن جنود الاحتلال الإسرائيلي.

كما بلغني أن الاحتلال، الذي يحتجز في مقابر الأرقام، جثامين ثمانية وستين ومائتي شهيداً، بعضهم محتجز منذ عقود؛ أضاف إليهم جثمان ثمانية وعشرين  شهيداً من هبَّة القدس، وتسعة عشر شهيداً من غزة، بعد العدوان البربري عليها العام الماضي.

ولما كان احتجاز الجثامين، مخالفة صريحة للقوانين، كما جاء في المادتين السادسة عشرة والسابعة عشرة من اتفاقية جنيف الأولى، والبروتوكول الإضافي لاتفاقيات جنيف؛ أكَّد مجلس حقوق الإنسان الفلسطيني، أن الممارسات الإسرائيلية تخالف القوانين الدولية، وقرارات محكمة العدل العليا الإسرائيلية، التي أقرت بحق الأحياء والأموات، سواء بسواء، في الكرامة الإنسانية، وفي العدالة القضائية.

أما أهالي الشهيدات والشهداء؛ فقد رفضوا الإذعان لشروط الاحتلال، لتسليم الأحباب، رفضوا دفن الشهداء سراً في الليل؛ وطالبوا بحق أبنائهم في مراسم تليق بهم  في النهار.

ونتيجة الموقف الموحَّد؛ وإصرار الأهالي المبدئي، والالتفاف الشعبي، والضغط القانوني، والدولي، وجهود الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب، والكشف عن مصير المفقودين – والتي دشنت في السابع والعشرين من آب، من العام ثمانية وألفين ميلادية-؛ استلم أهالي الشهداء تسعة من الجثامين، وتراجع الاحتلال عن تسليم تسعة آخرين.

لكن تحقيق الأهداف، يا سادة يا كرام، يحتاج الثبات، بالإضافة إلى الإصرار والعناد، والمثال يأتينا من السبعينيات، ومن النساء الفلسطينيات. حدثتني أفنان قالت: حدثتني سهيلة طه، عن إصرارها على استرداد جثمان أخيها الشهيد علي طه، ذي الثلاثة والثلاثين عاماً، قائد عملية سابينا، في مطار اللد، التي هدفت إلى إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين، من السجون الإسرائيلية. ورغم أن معدل ذكاء علي كان يكفي شخصين، كما وصفته غولدا مائير في تقريرها إلى لجنتين؛ إلا أن حسَّه الإنساني، تسبب له في خديعة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي أطلق النار عليه، فاستشهد، في الثامن من أيار، من العام ألف وتسعمائة واثنين وسبعين ميلادية.

تحدَّثَت عن رفض الاحتلال تسليمه لذويه، وعن الطريق الوعر الذي سلكته، والمرّ الذي تجرَّعته، حتى تسلمت جثمان علي بعد سنتين، كانتا أكثر من مئتين. لم تعترض على الاستشهاد في سبيل الأوطان؛ لكنها اعترضت على اعتقال جثمانه، ورفضت ألاّ تكون لديها إجابة عن سؤال بنات علي الصغيرات عن مكانه.

ومنذ ذلك الحين، يا سادة يا كرام، لم يهدأ لسهيلة بال، ولم تنعم بطعام أو شراب، ولم تتدثَّر بغطاء، في آناء الليل أو أطراف النهار، حتى تعرف مكان شقيقها، وتردّ غربته، ليرتاح بين أهله.

لَجَأت إلى محافظ القدس، ثم إلى رئيس بلدية الخليل، وطالبتهما بمتابعة طلبها. وبما أنها لا تطيق الانتظار، ولا تؤمن بترك قضيتها للأقدار؛ خاطبت وزير الأديان الإسرائيلي، وقصت عليه قصة بطل فرنسا الذي استلم الجيش الفرنسي جثته، بعد خمسين عاماً، وتم دفنه في مقبرة عسكرية، بعد إطلاق ألف تحية. حوَّلها الوزير للجيش، وحوَّلها الجيش للشرطة، وأحست أنها أصبحت كالكرة المتدحرجة.

 لكنها خلال رحلة السنتين، لم تكلّ أو تتراجع ولو خطوتين. يوم عند المحامية، ويوم عند أحد المسؤولين، ويوم عند الجريدة. ومن أجل أن تنال حقها؛ رفعت قضية في لاهاي، في محكمة العدل الدولية. وقبل أن تبدأ المحكمة؛ دعت لجنة حقوق الإنسان، والصليب الأحمر، والصحافة، لحضور الجلسة.

حاولوا ثنيها عن مرادها، عبر إخافتها (حين وزَّعوا خلال جلسة المحكمة ورقة تفيد بالعقاب الرهيب لمن يطالب بالمغوار الشهيد). لم تخف سهيلة أو ترضخ للتهديد أو الوعيد، وساندتها محاميتها فيليتسيا لانغر، (التي عرفت بمواقفها ضد العنصرية، وبدفاعها عن المعتقلين، وانتصارها لقضايا المناضلات والمناضلين)، وعبر مساومتها (التنازل عن القضية في لاهاي أولاً)؛ لكنها ازدادت إصراراً على عدم التنازل عن القضية.  

وفي سبيل الوصول إلى الهدف المنشود؛ لم تدع سهيلة باباً صعباً إلاّ طرقته، وطريقاً وعراً إلاّ سلكته. استعانت بصحفي كي يكتب لها رسائل باللغة الإنجليزية، وسلمت بنفسها رسالة لوزير الخارجية الأمريكية: هنري كسينجر، في إحدى زياراته المكوكية إلى فلسطين.

وسلمت رسالة ثانية للأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، في مقر الهيئة في جبل المكبر، في قصر المندوب السامي، في القدس. وعن طريق محاميتها؛ أرسلت رسالة ثالثة إلى رئيسة وزراء الحكومة الإسرائيلية.

أثمرت جهود سهيلة، أيها الأفاضل؛ واستلمت رسالة بالموافقة على عودة المناضل، والشرط ألاّ يدفن في القدس. وافقت على أن يضم علياً تراب الخليل؛ لأنه تراب فلسطين.

 وفي يوم الاثنين، من شهر أيار، من العام أربع وسبعين وتسعمائة وألف ميلادية، وألف وثلاثمائة وأربع وتسعين وألف هجرية؛  تزينت الخليل لاستقبال بدر البدور، البطل الجسور. خلعت سهيلة ثوب الحداد الأسود، وارتدت ثوب الفرحة الأبيض، وخاطت علماً فلسطينياً، رشته بالعطر، وحملته بحقيبتها، على أنه طقم صلاتها. أعلنت في الصحف الفلسطينية؛ أنها سوف تزفّ شقيقها في مدينة الخليل الأبيّة.

حضرت الصحافة، وجاءها المهنئون من فلسطين، يحملون الأكاليل والرياحين، غير مكترثين بالطائرات، أو الجيش الذي يحتل أسطح العمارات، أو بالدبابات التي تجوب الطرقات.  ليس أجمل من الانتصار، ومن أكليل الفخار!

لفَّت سهيلة علياً بالعلم، ورغم إحساسها بالألم؛ زغردت، وأنشدت، وودَّعت، ثم عادت إلى بيتها، لتتدثر بلحافها، ونامت ملء جفنها.

وما كادت سهيلة تنهي حديثها، أيها الجمهور السعيد ذو الرأي السديد؛ حتى وصلت أخبار جديدة، أن الاحتلال لم يكتف باحتجاز جثامين الشهداء، وهدم منازلهم؛ بل أصدر قراراً عجيباً بمنع إعادة بناء المنازل، وقراراً بسحب حق المواطنة منهم…..

ووووووووووووووو

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام الجراح.